عن اليسار في معقل الإمبريالية – الجامعة الأمريكية في بيروت
خلال الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي بذلت الولايات المتحدة كل جهد حتى تنصب نفسها دولة عظمى وتفرض نفوذها في العالم العربي وذلك عن طريق صنع كيانات واطلاق برامج تنموية لمحاربة الشيوعية .ومن هذه الكيانات الجامعة الأمريكية في بيروت التي بدأت باسم الكلية السورية البروتستانتية على يد مبشر أمريكي قبل أن تكون الجامعة الأمريكية التي نعرفها اليوم .
المفارقة هنا ان التيارات القومية واليسارية التي ارادت الحكومة الامريكية أن تحاربها ازدهرت في الجامعة الأمريكية. فكان للجامعة الفضل بتخريج مجموعة من الناشطين في الحركات القومية الذين لعبوا في ما بعد أدواراً بارزة في بلدانهم وفي ما خصّ قضاياهم خاصة في فترة الستينات والسبعينات حيث موجة انتشار الأفكار اليسارية والقومية و التحرر من الاستعمار. فمن أروقة الجامعة ظهرت نواة أشهر الحركات القومية جماعة” العروة الوثقى” ومنها تأسست حركة القوميين العرب. وكانت المجلة الصادرة عن العروة الوثقى حينها بمثابة الكتاب المقدس للقوميين العرب في كل العالم العربي.
ورغم هيمنة جماعة العروة الوثقى على خطاب حرم الجامعة إلا أن كثير من الجماعات اليسارية نشطت داخل الجامعة مثل الحزب السوري القومي وحزب البعث و الحزب الشيوعي للشباب.
وعلى أن سياسة الجامعة هي عدم زج السياسة في ساحات التعليم ومحاولة كبح أي تفاعل مع الأحداث السياسية إلا أن التحدي أستمر بين الطلبة و إدارة الجامعة بسبب مشاركة الطلاب في القضايا السياسية فكان الطلاب ينظمون مظاهرات دعماً للقضية الفلسطينية وتحرر بلاد المغرب العربي وضد أي شيء امبريالي منذ عام 1947 م , وعَبر الطلاب عن غضبهم من دعم امريكا لإقامة دولة اسرائيل عام 1948م بسلسة من الإضرابات والمظاهرات والقاء الخطب وفعاليات لتقديم مساعدات مالية للطلاب الفلسطينيين والتبرع بالدم .
ونشطت المظاهرات في بداية الخمسينات مع ثورة الضباط الاحرار بقيادة عبدالناصر, وأيضاً في عام 1954 م نظمت العروة الوثقى مظاهرات ضد حلف بغداد(الاتحاد المشترك بين تركيا وايران وباكستان وبريطانيا) بسبب أن الحلف يخدم قضايا الامبريالية الغربية, وحينها وقعت اصابات بين المتظاهرين وقررت إدارة الجامعة ايقاف العروة الوثقى بشكل مؤقت واوقفت باقي الجماعات بحجة أنها تجاوزت مجال عملها الثقافي الذي أُنشئت من أجله وانخرطت في العمل السياسي, وتلاشت المظاهرات عام 1955م بعد أن حظرت إدارة الجامعة الجماعتين الرئيستين اللتين تنظمان المسيرات وهي جماعة مجلس الطلبة والمجتمع العربي وجماعة العروة الوثقى .وهنا نشير إلى أن جهود الجماعات اليسارية لم تكن مقتصرة على المظاهرات بل طالت كل ما يخدم القضايا العربية فكانت الجماعات تطالب بالتوسع في استخدام اللغة العربية واحترام الثقافة العربية .
ورغم التضييق على عمل الجماعات داخل الجامعة إلا أن الطلاب استمروا يحتجون بشكل متقطع كرد فعل على الاحداث الكبيرة كالتفاعل مع نكسة عام 1967م ,والهجوم الاسرائيلي على مطار بيروت عام 1969م وغيرها .
كان الطلاب يرون أن مبدأ المشاركة السياسية جزء لا يتجزأ من التجربة التعليمية وان الجامعة الأمريكية التي تروج لحقوق الإنسان وحرية التعبير تتناقض مع مبادئها في منع الطلاب من تعبيرهم عن الوضع السياسي, فكانت الجامعة تظهر بشكل متناقض كونها تقدم نفسها كمشروع يدعي الحرية وتلوم الطلاب على تأثرهم بمحيطهم العربي وتمنعهم من حرية المشاركة السياسية خاصة ان الطلاب كانوا يرون ان المنطقة تمر بظروف غير عادية .
كثير من المقالات تناولت موضوع اثر الجامعة الأمريكية ببيروت في الأحداث السياسية في الستينات والسبعينات من ضمن دور الحركات الطلابية في الجامعات حول العالم بتلك الفترة في قضايا التحرر وحقوق الأنسان أو كدراسة حالة غريبة وهي ازدهار اليسار في جامعة مدعومة من أمريكا ,ولكن كان التركيز في هذه الدراسات على الطلاب من بلاد الشام وفلسطين خاصة بسبب الصراع الفلسطيني الصهيوني المحتدم حينها وتكتفي الدراسات بعبارة ( الطلاب العرب) لبقية الطلبة العرب بدون تفاصيل.
هنا نحاول تتبع اثر الطلبة الخليجين ممن التحقوا بهذه الجامعة وتأثروا بأفكار اليسار واثروا في بلدانهم ولا شك ان دورهم كان كبير بسبب جودة التعليم واجواء الانفتاح والحريات في الجامعة وقربهم من قوى اليسار العربي والعمل الحزبي المنظم ,حيث نرى الكثير من الطلاب الخليجيين تأثروا بأطروحات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين, ونمى لدى بعضهم الاتجاه القومي بسبب الاحتكاك بجماعة العروة الوثقى. وتعدى تأثر الطلبة وحماسهم للأفكار إلى الانتظام في لجان مناصرة الثورة الفلسطينية و الثورة العمانية في الخليج ونقلوا هذا التأثر إلى بلدانهم.
وقد انجذب الطلبة الخليجيين الى اطروحات الحركات القومية واليسارية حول مختلف القضايا خاصة قومية المعركة وترابط النضال الفلسطيني بالنضال العربي, وقد يكون الطلاب الخليجين من أشد المتحمسين للكفاح ضد الصهيونية والامبريالية الامريكية الداعمة لها بسبب ادراكهم للدور الذي تلعبه بلادهم وتحالفها مع الامبريالية كنوع من الاحساس بالذنب وتعبير عن معارضتهم لسياسية بلدانهم وكانت الحركات اليسارية العربية التي يتركز ثقلها حينذاك في الجامعة الأمريكية تدعم حركات اليسار الخليجية وتتبناها .
ومن الطلبة الخليجين الذين تخرجوا من الجامعة الأمريكية متأثرين بأفكار اليسار و كل لهم دور فاعل في بلدانهم لاحقاً د. أحمد الخطيب وهو سياسي كويتي معروف ومن المشاركين في تأسيس حركة القوميين العرب مع وديع حداد وجورج حبش ,ومن البحرين عبدالرحمن النعيمي الذي التحق بحركة القوميين العرب ونفي من بلاده وعاد لتشكيل عدد من الحركات السياسية تضم اطياف اليسار التقدمي حتى وفاته عام 2011م , ود.علي فخرو وهو من اوائل الطلبة الخليجين الملتحقين بحزب البعث وعضو مؤسس في المؤتمر القومي العربي ولا يزال مؤثر في القضايا القومية , وعبد النبي العكري الباحث والمؤرخ للحركات اليسارية في الخليج ومن الناشطين في حقوق الإنسان الى اليوم, وغيرهم من الاسماء منهم من نعرف ومنهم من انخرط في النضال اليساري ثم اختفى .
فترة الستينات والسبعينات مرحلة مهمة لمن يتتبعها تنفي خصوصية الشعب الخليجي وانه كائن متأثر بما حوله ومشارك في النضال متى ما أتيحت له الفرصة .
سلاماً لهم ولعل المقال يفتح ابواب النقاش والتصحيح حول موضوع تأثر وتأثير طلاب الجامعة الأمريكية الخليجين في فترة المد القومي واليساري.